قررت طلب فيزا السياحة أو الزيارة كما تسميها حكومة كندا، شهر مارس من سنة 2019، حصلت عليها بعد أسبوع، مختومة بمدة ثلاث سنوات..
فهل رحلت مباشرة؟
لا، طبعا..
ولماذا إذن؟؟
لأني لم أتصور نفسي، في يوم من الأيام، مهاجرة ببلدان زرتها وزرت شبيهاتها بأوروبا.. بلدان قرأت طويلا وسمعت كثيرا عن تاريخها وحضارتها وتحولها وتقدمها ومعاناة شعوبها مع حكامهم ورجال دينهم، مع الحروب وويلاتها، ومع ذلك تفوقوا على ضعفهم وتشتتهم وفسادهم وخرجوا منتصرين وحققوا لأنفسهم ماهم عليه الآن ومانحن لسنا عليه، رغم قدم وعراقة حضارتنا وثقافتنا الضاربة في عمق التاريخ..
ولأني بدأت سنوات دراستي الجامعية، مناضلة في صفوف الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، متأثرة بما كنت أقرؤه لمفكرين وصحافيين اتحاديين ، صاروا فيما بعد أساتذة لي بشعبة علم الاجتماع..
آمنت كما يؤمن الأعمى بعكازه، بأن النضال والعمل في القواعد والدراسة والكفاح والتوحد مع الملكية في تغيير المغرب نحو الأفضل كما فعل جيراننا بأوروبا وبعدهم أمريكا واليابان..لأجد عمري وقد تسرب مني كما يتسرب خيط دخان من حفلة شواء.
أكيد، تعلمت وتكونت وساهمت وشحذت شخصيتي ومعارفي وتسلحت ببعض أدوات التحرر والقناعة من أجل التغيير، غير أن خيبة الأمل الأولى، جاءت بعد الخلاف بين شبيبة الحزب والكاتب الأول بعد قبوله بقيادة الحكومة دون ضمانات دستورية مكتفيا بالقسم فوق القرآن وتقبيل كتف الملك الحسن الثاني..
ثم توالت خيبات سياسية وشخصية، أوهمت نفسي بأن النضال في صفوف إطار سياسي آخر، من نفس أسرة اليسار كفيل بقلب المعادلة، والنتيجة؟
كانت كما يشدو زياد الرحباني:" لا..ولاشي"
ثم جاء " الربيع العربي" انخرطت في حركة 20فبراير منذ الإعداد إلى الانطفاء، رأيت بعيني أم نظارتين، كيف يجلس اليساري الراديكالي وقدماء الحالمين بالثورة والجمهورية، من مدعي العلمانية والتقدمية، جنبا لجنب مع الإسلاميين، كنت أعرف تقاربهم نظريا واستراتيجيا منذ سنوات، وفي خضم الحركة تبين لي ذلك كما يتبين الكذب في قصيدة مدح ممولة..
أصبت باكتئاب سياسي، أنزلت ستارة النضال بالساحات وكل الإطارات، احتفظت بصداقاتي الإنسانية مع أسرة اليسار، أسرة بها من الأعضاء إخوة وأخوات أقرب اي من أسرتي الدموية..
أغلقت فايسبوك النضال ثم فتحت هذا الذي أبكي وأضحك وأصرخ وأغضب وأهتف وأسخر وأراوغ وأواجه وأساعد وأفعل كل ماتطيقه الحروف والصور والكلمات وأشياء التعبير..
ثم جاءت 2013، السنة التي ستقوم فيها أختي، التي من لحمي ودمي ورحم أمنا وماء أبينا، باعتدائها الأول عليّ بعقر شقتي بحي حسان..
والسبب؟؟
الكتابة على الفايسبوك!!
يبدو الأمر مضحكا بل تافها وغير قابل للتصديق..
أخت بمرتبة أستاذة جامعية بالرباط، عضو نشيط بجماعة العدل والإحسان، زوجة وأم لثلاثة أولاد، تشغل نفسها بما تخربشه أختها الكبرى على الفايسبوك، تهددها، وحين لاتكف عن الكتابة، تأتي إليها، لتعتدي عليها، بحضور الوالدة التي ولدنا معا من أحشاءها لتفرقنا المعتقدات الخرافية والأحقاد والضغائن ، أضمد جراحي وأصمت وأعفو استجابة لهذه الأم التي توسلت إلي بكل أحشائها: بالكبد الذي أنا طرف منه، بالثدي الذي رضعت حليبه، بالبطن التي تخبطت فيه، بليالي السهر والحمى والصبر وبدموع الصبر الحارة والقلب النازف صبرا من أجل لم شمل أسرة مهددة بالتشرد في كل لحظة..
يااااااه، كم هي ظالمة هذه الأمومة ودكتاتورية، كانت أمي تستجدي صمتي أنا الضحية ولاتتوسل التعقل والكف عن العنف من طرف أختي الجلادة..
ماسيحدث فيما بعد، أني سأمعن في الكتابة والغضب والصراخ، أكتب أو أحفر كما يحفر رسام مجنون فوق ورق شفاف شعرا وسردا ونصوصا وصورا وحكايا تعري ماتحاول أختي وأمي وزميلاتي وصديقاتي ورفيقاتي إخفاءه وستره : إنها الطابوهات..
لم تكن كراهية لأحد، بل غضبا من الجميع، من بلدي الذي تقوده الإرادة إلى الوراء، من وزارة التعليم التي تخرج الضباع بدل المتعلمين، من حسرتي على تلاميذ وتلميذات يحترقون كشمعات في الريح، من أسرتي التي أكلها الظلام، من مجتمعي الغارق في الوحل والنفاق والتهميش والخرافة..
ومع ذلك، عاودت أختي جريمتها سنة 2015 في حقي، مرة اخرى بحضور أمي وأختي الأصغر، بعد جريمة الوزارة في توقيفي من تدريس الفلسفة بسبب نفس الجريمة: الكتابة على الفايسبوك، لم ينفعني رحيلي لزاكورة طلبا للجوء الوطني، فتعرضت لأبشع أنواع الانتقام بسبب عمل إنساني، وحين حصلت على الفيزا أم ثلاث سنوات من كندا، عوض أن أحزم حقيبتي في الحين..
ماذا فعلت؟
ضعفت واستسلمت لقلبي المعلق بالمغرب الذي أحبه كما يحب عاشق مذلول معشوقه النرجسي، تركت نفسي تشتري بيتا بجبال بني ملال، قلت هو المأوى والملاذ بعد هذا التشرد، أخفيت عنوانه حتى عن ابنتي التي عادت لتعيش بالمغرب، فكانت الضربة القاضية التي قصمت ظهر الصبر والتحمل، اعتداء جار بقطع الطريق أمامي، ومسلسل ابتزاز من طرف قائد الجماعة الذي لجأت إليه كمواطنة ليحميني ويحمي باقي الجيران..
هي مسيرتي ببلدي بشكل ميكروسكوبي، دفعت بي من مغربية تكره وترفض فكرة الهجرة إلى لاجئة بكندا، تصر على حريتها في التعبير والحق في ممارسة الكتابة على الفايسبوك وقد يتطور الأمر نحو الورق..
هي مسيرة امرأة غاضبة لاحاقدة، ومن رأى فيها الحقد، فلأن من كانت حياته في النار ليس كمن كانت في الماء..
الصورة : المنزل الذي توهمته مستقرا أخيرا، بجبال بني ملال، فتجول لشبح طردني من البلد بكامله.
فهل رحلت مباشرة؟
لا، طبعا..
ولماذا إذن؟؟
لأني لم أتصور نفسي، في يوم من الأيام، مهاجرة ببلدان زرتها وزرت شبيهاتها بأوروبا.. بلدان قرأت طويلا وسمعت كثيرا عن تاريخها وحضارتها وتحولها وتقدمها ومعاناة شعوبها مع حكامهم ورجال دينهم، مع الحروب وويلاتها، ومع ذلك تفوقوا على ضعفهم وتشتتهم وفسادهم وخرجوا منتصرين وحققوا لأنفسهم ماهم عليه الآن ومانحن لسنا عليه، رغم قدم وعراقة حضارتنا وثقافتنا الضاربة في عمق التاريخ..
ولأني بدأت سنوات دراستي الجامعية، مناضلة في صفوف الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، متأثرة بما كنت أقرؤه لمفكرين وصحافيين اتحاديين ، صاروا فيما بعد أساتذة لي بشعبة علم الاجتماع..
آمنت كما يؤمن الأعمى بعكازه، بأن النضال والعمل في القواعد والدراسة والكفاح والتوحد مع الملكية في تغيير المغرب نحو الأفضل كما فعل جيراننا بأوروبا وبعدهم أمريكا واليابان..لأجد عمري وقد تسرب مني كما يتسرب خيط دخان من حفلة شواء.
أكيد، تعلمت وتكونت وساهمت وشحذت شخصيتي ومعارفي وتسلحت ببعض أدوات التحرر والقناعة من أجل التغيير، غير أن خيبة الأمل الأولى، جاءت بعد الخلاف بين شبيبة الحزب والكاتب الأول بعد قبوله بقيادة الحكومة دون ضمانات دستورية مكتفيا بالقسم فوق القرآن وتقبيل كتف الملك الحسن الثاني..
ثم توالت خيبات سياسية وشخصية، أوهمت نفسي بأن النضال في صفوف إطار سياسي آخر، من نفس أسرة اليسار كفيل بقلب المعادلة، والنتيجة؟
كانت كما يشدو زياد الرحباني:" لا..ولاشي"
ثم جاء " الربيع العربي" انخرطت في حركة 20فبراير منذ الإعداد إلى الانطفاء، رأيت بعيني أم نظارتين، كيف يجلس اليساري الراديكالي وقدماء الحالمين بالثورة والجمهورية، من مدعي العلمانية والتقدمية، جنبا لجنب مع الإسلاميين، كنت أعرف تقاربهم نظريا واستراتيجيا منذ سنوات، وفي خضم الحركة تبين لي ذلك كما يتبين الكذب في قصيدة مدح ممولة..
أصبت باكتئاب سياسي، أنزلت ستارة النضال بالساحات وكل الإطارات، احتفظت بصداقاتي الإنسانية مع أسرة اليسار، أسرة بها من الأعضاء إخوة وأخوات أقرب اي من أسرتي الدموية..
أغلقت فايسبوك النضال ثم فتحت هذا الذي أبكي وأضحك وأصرخ وأغضب وأهتف وأسخر وأراوغ وأواجه وأساعد وأفعل كل ماتطيقه الحروف والصور والكلمات وأشياء التعبير..
ثم جاءت 2013، السنة التي ستقوم فيها أختي، التي من لحمي ودمي ورحم أمنا وماء أبينا، باعتدائها الأول عليّ بعقر شقتي بحي حسان..
والسبب؟؟
الكتابة على الفايسبوك!!
يبدو الأمر مضحكا بل تافها وغير قابل للتصديق..
أخت بمرتبة أستاذة جامعية بالرباط، عضو نشيط بجماعة العدل والإحسان، زوجة وأم لثلاثة أولاد، تشغل نفسها بما تخربشه أختها الكبرى على الفايسبوك، تهددها، وحين لاتكف عن الكتابة، تأتي إليها، لتعتدي عليها، بحضور الوالدة التي ولدنا معا من أحشاءها لتفرقنا المعتقدات الخرافية والأحقاد والضغائن ، أضمد جراحي وأصمت وأعفو استجابة لهذه الأم التي توسلت إلي بكل أحشائها: بالكبد الذي أنا طرف منه، بالثدي الذي رضعت حليبه، بالبطن التي تخبطت فيه، بليالي السهر والحمى والصبر وبدموع الصبر الحارة والقلب النازف صبرا من أجل لم شمل أسرة مهددة بالتشرد في كل لحظة..
يااااااه، كم هي ظالمة هذه الأمومة ودكتاتورية، كانت أمي تستجدي صمتي أنا الضحية ولاتتوسل التعقل والكف عن العنف من طرف أختي الجلادة..
ماسيحدث فيما بعد، أني سأمعن في الكتابة والغضب والصراخ، أكتب أو أحفر كما يحفر رسام مجنون فوق ورق شفاف شعرا وسردا ونصوصا وصورا وحكايا تعري ماتحاول أختي وأمي وزميلاتي وصديقاتي ورفيقاتي إخفاءه وستره : إنها الطابوهات..
لم تكن كراهية لأحد، بل غضبا من الجميع، من بلدي الذي تقوده الإرادة إلى الوراء، من وزارة التعليم التي تخرج الضباع بدل المتعلمين، من حسرتي على تلاميذ وتلميذات يحترقون كشمعات في الريح، من أسرتي التي أكلها الظلام، من مجتمعي الغارق في الوحل والنفاق والتهميش والخرافة..
ومع ذلك، عاودت أختي جريمتها سنة 2015 في حقي، مرة اخرى بحضور أمي وأختي الأصغر، بعد جريمة الوزارة في توقيفي من تدريس الفلسفة بسبب نفس الجريمة: الكتابة على الفايسبوك، لم ينفعني رحيلي لزاكورة طلبا للجوء الوطني، فتعرضت لأبشع أنواع الانتقام بسبب عمل إنساني، وحين حصلت على الفيزا أم ثلاث سنوات من كندا، عوض أن أحزم حقيبتي في الحين..
ماذا فعلت؟
ضعفت واستسلمت لقلبي المعلق بالمغرب الذي أحبه كما يحب عاشق مذلول معشوقه النرجسي، تركت نفسي تشتري بيتا بجبال بني ملال، قلت هو المأوى والملاذ بعد هذا التشرد، أخفيت عنوانه حتى عن ابنتي التي عادت لتعيش بالمغرب، فكانت الضربة القاضية التي قصمت ظهر الصبر والتحمل، اعتداء جار بقطع الطريق أمامي، ومسلسل ابتزاز من طرف قائد الجماعة الذي لجأت إليه كمواطنة ليحميني ويحمي باقي الجيران..
هي مسيرتي ببلدي بشكل ميكروسكوبي، دفعت بي من مغربية تكره وترفض فكرة الهجرة إلى لاجئة بكندا، تصر على حريتها في التعبير والحق في ممارسة الكتابة على الفايسبوك وقد يتطور الأمر نحو الورق..
هي مسيرة امرأة غاضبة لاحاقدة، ومن رأى فيها الحقد، فلأن من كانت حياته في النار ليس كمن كانت في الماء..
الصورة : المنزل الذي توهمته مستقرا أخيرا، بجبال بني ملال، فتجول لشبح طردني من البلد بكامله.

إرسال تعليق