الصحراوي

الصحراوي : الجزء الثاني

 "كيف ندير حتى ننساك

يا الزين الصافي ياالزين الصافي

ياالسالب عقلي ؟"

محمد رويشة

عندما قدمت ربيعة إلى أكدز لتزورني وتزورها، لم تخبرني ولم تتصل بالهاتف أو بأية وسيلة أخرى, ربيعة كانت امرأة من خراب يغالبه الأمل، تعبث بهواتفها فتضيعها كما تعبث بها الحياة فتضيع آمالها.

وصلت بالحافلة إلى أكدز، صباح يوم أربعاء، لحسن حظها كنت أشتغل يومها بحصص المساء، أكتري شقة من " ح, أ " أسمنتية مفروشة على طريقة منازل الضيافة السياحية، بمزيج بين الطرازالعصري المستورد والمحلي المشغول بعناية الحرفيين أبناء البلد, يقع البيت بالحي الإداري لأكدز، سومته الكرائية ألف وخمسمائة درهم شهريا، ينصدم أو يضحك او يسخر كل من يسمعها مني,,
كيف عرفت بمجيء ربيعة؟
الفضل كل الفضل يرجع للصحراوي.
وصلت ربيعة لمحطة حافلات ألمو، عرفت، ولست أدري كيف عرفت، أني أصاحب " الصحراوي" صاحب البزار، هناك أقتعد كرسيا كل مساء بعد مغادرتي تعب الأقسام وتدريس الفلسفة للمراهقين، أشرب شايه الصحراوي الحلو بمرارته وسكر القالب، معطرا بالزعتر والزعفران، أقضم لوزه وأنصت لحكاياته عن البلدة وأهلها، ننمم معا في عقر مغارة علي بابا، ذاك البزار الذي يديره بحنكة وأناقةن ويعج بالحكايات والقبل المسروقة بيننا وأخبار كل صغار وكبار البلدة والسياح الأجانب المقيمين والعابرين.
اتجهت ربيعة نحوه بكامل حدسها وعفويتها وبعض حذرها ، سألته عن الأستاذة، أجابها فورا:
- هي الموجودة أللا، احنا فأكدز، عندنا غير أستاذة وحدة هي إيزة تليلا !!

قدم لها الشاي واللوز وبعض الخبز والزيت والعسل، كان الوقت صباحا مبكرا مشرقا بعد ليل سفر طويل بمعارج تيشكا وأيت ساون المرعبة لابنة المدينة كربيعة، أفطرت رفقة الصحراوي الجميل تحت أشعة شمس أكتوبر الدافئة أمام بازاره الذي تفوح منه عطرسرغينة كما يفوح من جسده اللوزي،جسد كلما عانقته وضممته لي، أحس أني أعانق كل الصحراء بأسرارها وخباياها العظيمة والساحرة، عطر سرغينة هو دليلي نحو سيرة العشق والشهوة التي لاتموت بالمنفى بل تزيد، العطر الذي يهاجمني بشراسة، هنا، في أدغال غربتي وعزلتي بكندا، لاسبيل لي لمداراته أو قمع وحوشه المتربصة بوحشتي واشتياقي لتلك الأيام والليالي التي تقلبت فيها بين البزار والخيمة والبيت الطيني والشقة الإسمنية والبيت الأبيض وكثبان الرمل الحارة والفنادق والرياضات والقصبات والدواوير والجبال والهضاب، ليال تفوقت فيها سيرة الأنس والمتعة على ماعداها من ظلال الحزن والوجع المركون عنوة في زاوية الذاكرة الحادة,

اتصل بي الصحراوي، أخبرني أن صديقتي الرباطية وصلت للتو بحافلة "ألمو" القادمة من مراكش واناه في ضيافته بالبزار,

لم أصدقه بداية، ظننتها مزحة منه، إذ لاصديقة رباطية لدي تغريها المنطقة للسياحة أو الاستكشاف أو حتى زيارتي ..

خرجت من شقتي الصقيعية، برد الخريف الصحراوي أقسى من برد مرتفعات الروك الغربية بكالغاري الكندية، انعدام التدفئة بالبيوت يجعل خارجها أرحم من داخلها، سيما نهارا، حيث شمس لذيذة تغري أي أنثى بنزع ملابس الصوف الثقيلة والحذاء الغليظ، مد رجليها البيضاوين تحت الأشعة الدافئة في كسل عسلي فوق كرسي متهالك بأحد مقاهي أكدزالمحتلة من طرف الذكور وبعض السياح العابرين, إنه المشهد ذاته الذي وجدت عليه ربيعة.
تعانقنا بشدة، أضحكتنا المفاجأة الحلوة بلاتخطيط او انتظار، منظرها وهي ممددة كقطة سيامية تحت الشمس غير عابئة بنظرات الأهالي والمارين والفضوليين,

مدت يدها ألى حقيبة ظهرها الجلدية الثقيلة، قدمت لي شيئا ما قائلة:
-هذه هديتي لك من الرباط
يالك من مجنونة ؟؟ تحملين معك قالب سكر من الرباط نحو أكدز وكأنه ليس موجودا هنا ههه !!
- إنه ليس ككل قوالب السكر التي تعرفين و يمكنك أن تشتريها,
- غريب هذا الأمر ياربيعة البديعة، ولماذا؟؟
- لأنني أحضرته لك من الرباط لتنسيك حلاوته مرارة ماعشته هناك قبل سنتين تقريبا,,

كان قالبا عاديا من السكر مغلفا بكاغطه الأزرق تتوسطه النجمة والنمر الأصفر المذهب في وسط الدائرة ذات اللون الاحمر الداكن، يتفتت بعض سكره عند ملامسته ككل قوالب المغرب,, ليتحو،: بقدرة ربيعة، لرمزية أصبحت مختلفة الآن بعدما تسلمته,

لاحظت ربيعة أن ضحكتي اختفت فجأة والحزن علا وجهي بينما عيناي تغالب الدمع بمقاومة شديدة , عانقتي ثم ضمتني إليها بحن، ترطب ماأثارته كلماتها من خدوش وندوب لاتزالت طرية لم تندمل بعد,
ربيعة، حكاية امرأة أربعينية من صداقاتي القديمة التي حافظت عليها أو أكاد، من رفقة الشبيبة الاتحادية، منذ تسعينيات القرن الماضي، حكاية لم تكتمل أبدًا، لم تعرف النهايات السعيدة في كل مالمسته يداها، ماتت أمها وهي بالغربة، توقفت مشاريع دراستها واستقرارها بفرنسا، جربت الحب، مثلي ومثل المغربيات الخارجات عن دوائر العادة والخرافة ففشلت كما فشلنا جميعا بالرغم من محاولات عيش متأرجحة بين الألم وبعض الملذات الباهتة، يستأسد الألم في حياتها على اللذة فيهزمها، لتبحث ربيعة عن مهرب مؤقت في حقيبة ظهرها، تحملها، تلوذ بالطبيعة، تصعد جبلا أو تنزل جنوبان وقد تعتكف شهورا في غرفتها بسطح بيت أسرتها لاترافقها سوى قططها وسيجارتها وكتبها وموسيقاها.

ربيعة، امرأة حياتها غريبة غرابة كل شيء بالمغرب، بكل ماأوتيت من معرفة وذكاء الحاد حدة مقص خياط، لم تنجح في رتق تفاصيل حياتها على هواها، بقدر ما فصلتها الحياة كما أرادت، رمت بها قطعًا ممزقة كلما حاولت لمها وترتيبها عاودت السقوط والتمزق,

كان الصحراوي يقف بعيدا عنا بعض الشيء، يراقبنا بقليل من الخجل والبراءة والحفاوة المعهودة في أهل الجنوب الشرقي بقدوم الغريب، ينظر إلينا باسما بعينيه البراقتين اللئيمتين، لم يراني يوما أعانق وأبكي أمام امرأة كما يراني، عادة، أبكي بين يديه عندما أسكر فأتذكر أمي أو عندما أنتعظ فأبكي من الشبق والنشوة طيلة ليالينا الحمراء الملونة بكل ألوان المفاحشة والغرام,

قضينا أياما حلوة، نحن الثلاثة، بين ضحك ومشي عبر هضاب وقصبات أكدز ودواويرها ونخيلها وحقولها، وأنس وسهرطيلة أربعة ليال مضاءة بالنجوم والأقمار، المشتعلة بالرغبة والشغف، متقاسمين مااستطعنا إليه سبيلا من حلويات وسكر المتع الحسية وأطاييبها، متخمين بعشاءات من يدي الصحراوي الرشيق الجميل، حيث أطعمتنا وسقتنا كما أطعمنا وسقانا وتده وشفاهه ويداه التي تتقن مداعبة أزرارالنشوة بجسدينا كما تتقن مداعبة أوتار القيتارة حين يعزف أغاني وألحان رويشة العظيمة,


Toutes les réactions :
صابر ين, Rachid Boughaba et 369 autres personnes

إرسال تعليق

إرسال تعليق