ونحن في لحظات السمر والتداعي الحر، على الوسادة أو الأريكة، تدور بيننا كؤوس مترعة من نبيذ أحمر رخيص نقتنيه من خمارة "الحاج التازارتي" عند مخل البلدة، مورد، رمادي وأحيانا أبيض متوسط الثمن، نجلبه من محل "ديمثري اليوناني" بمركز ورززات، وقد تكون كؤوس شاي صحراوي بلا نعناع وببعض العلك والزعفران، يعده حبيبي الصحراوي بيديه,
يسترسل محبوبي في حكاياته عن نسائه وشقراواته وسمراواته، بنات البلد القليلات جدا وبنات أوروبا وأمريكا واليابان، لم أفهم أبدا سر غرام السائحات اليابانيات به، إذ كنت أعرف أن الهولنديات والألمانيات والإسبانيات وكل جنسيات أوروبا هي الأكثر ولعا وهياما به تسقط صريعة جاذبيته وفحولته الصارخة.
كانت "أوسولا" هي واحدة من العابرات التي لصقت تفاصيل حكايته معها بذاكرتي، ربما لأنها تكبره كما كنت أكبره أم لأنها أكثر اللواتي عشقنه بعنف شديد مشوب بانحطاط نفسي وإذلال عاطفي,
" أورسولا" سيدة سبعينية من النرويج، قدمت إلى زاكورة عشقا وشغفا بصحراءها، كما يأتي كل سياح أوروبا، عشاق الرمال الأرجوانية الدافئة، والكثبان المنحنية المتماوجة، محبو المشي وسط السكون البليغ للصحراء والانصات لنبض الطبيعة العذراء، من يذخرون المال طيلة السنة ليصرفونه بسخاء لامتناه، خلال أسبوع زاخم بالمتعة، ضاج بفيض الأحاسيس، حين عطل أعياد الميلاد شتاء، أو عيد الفصح ربيعا، ومنهم من يغامر صيفا تحت أشعة شموسه الحارقة.
اختارت أورسولا، قادمة من النرويج، أرض الثلوج والبياض المطبق لشهور، عطلة شهر دجنبر، من السنة الأولى لتقاعدها، بعد الخامسة والسبعين.
امرأة نورويجية بقامة طويلة، تخالها شجرة صنار وارفة، شقراء مشعة، لم يغير الزمن من ذهب شعرها الوفير سوى بعض الجذور التي حرصت بعناية على صبغها عند حلاقها المفضل بمدينتها "بورغن" ذات المنازل الخشبية الملونة كتلون خدودها الحليبية بأشعة شموس المحاميد.
تبدو " أورسولا" وهي قادمة من بعيد، شجرة صنار عظيمة بهالة شقراء تتحرك وسط الصحراء، تظهر عليها الصلابة والقوة والجلد، إلا أن من يقربها، يدرك أنها ركام متشابك من رهافة بالغة وأحاسيس هشة، تفجرها حواسها التي خانتها وهي نقع في غرامين عصفا بقوتها وصلابة إرادتها : عشق الصحراء وعشق الصحراوي, ولأول مرة، منذ عمرها الطويل الحافل بالعمل والزواج وتربية الأولاد والتطوع، حتى بعد بلوغها التقاعد ورحيل الأبناء والبنات نحو أعشاشهم، موت الزوج، بقيت وحيدة، صابرة، مكتفية بألبوم حياتها المهنية والأسرية الزاخر بالعطاء والحب والتفاني، تنظر فيه بعض الليالي بشقتها الدافئة المطلة على غابة، وهي بكامل مشمشها وحيوتها وحرارة رحمها وفرجها، لم ياخذ منها نقدم السن شيئا، وكأنها مومياء حليبية تحنطت تحث ثلوج النرويج وبرودتها.
عاشت أورسولا، مخلصة لزوجها وأمومتها ووطنها، لاوقت لديها لتضيعه، كل ماحرصت عليه، هو ممارستها لهوايتها المفضلة في التزحلق، نهاية كل أسبوع من فصل الشتاء، وركوب الدراجة الهوائية، طيلة السنة.
خانت الحواس المتجمدة البيضاء، هدوء أورسولا وجلدها ورزانتها، وهي تلتقي ب"الصحراوي"، أول جمال أسود خلاسي تقع عيونها الزرقاء الصافية الشفافة في سحر عيونه الحجلية الغامضة.
أتساءل، عما يجمع النار والثلج؟ لهيبان، يحرقان الجلد ما تعرض لهما ولو جزء زمنيا قصيرا، جلد أبيض تحرقه شموس الصحراء وجلد أسود تحرقه قساوة الصقيع، فمابالك، لو التقت امرأة نورويجية، بعظمة وفخامة أورسولا، بحرارة واشتعال مارد جميل كالصحراوي، لقاء بركاني فجر كل وديان الرغبة المتجمدة بشرايينها، منذ آلاف الشهوات والرغبات عبر السنين، كما لو انفجرت حممه داخل مياه نهر"كلاما" الإسكندنافي العظيم، المتجمد شتاء، ليسيل فيضانل على كل الأراضي المنخفضة فيغرقها ويجرفها في سيله الرهيب,
جرفت سيول "الصحراوي" قلب وعقل أورسولا، تدفق العشق برهبته وجبروته في عروقها تدفق الدماء الحارة اللاهبة في عروق الصحراوي، عروقه التي تشبه أودية وادي وادي درعة، نهر الخصوبة والأمل، أصل ارتواء وسقاء الجنوب الشرقي كله، يسقي عطش واحاته، يهب الحياة، يمنح الخصوبة، يزهر على ضفافه النخيل واللوز والرمان والورد، يحمي أهل الواحة من سطوة الرمال وجفاء المطر ونسيان الحاكمين لهذا الهامش منذ عشرات القرون..
إرسال تعليق