الصحراوي

الصحراوي الجزء 4

 كان من عادة الصحراوي أن يهيم في أقاصي دروب محاميد الغزلان الرملية، بين أحضان كثبانها وحيدا كأنه طفل يعود إلى رحم أمه، سارحا جماله حينا، راعيا ماعزه حينا آخر، ماشيا بين وديان وأحراش وحقول واحات درعة المنتشرة المترامية، مستظلا بأغصان الطلح والسدر، شاربا مياه آبار حفرها الأهالي أو أجانب متطوعون، مغنيا لأمه وللحب على قيثارته أو نايه، ناظما أشعارا تتغنى بجمال المرأة الصحراوية، كما يصوره مخياله الخصب، منشدا للشعراء العريبيين بالحسانية كما للروايس بكل اللهجات الأمازيغية حتى الشعر الطوارق يحفظ منه الكثير,

كلما جاع، عجن خبزه بيديه المعروقتين، أنضجه فوق نيران حطب يابس ملتومنثورعند سفوح الكثبان كثعابين الصحراء، أعد شايه الثقيل بحبوب جيدة جلبها من محل " البوغافري"، حضر وعاء "الخرذولة" بلحم الماعز وخضرمن أحراش بستانه الصغير، جلها لفت وباذنجان وجزر وبطاطس مما تنبثه تربة عطشة للماء عطشه لحضن امرأة تطعمه وتسقيه حبا وحنانا وألفة.

جاءته المرأة في شكل "أورسولا النرويجية" أو هكذا خيل لي منذ عاشرته وباشرته معتقدة أني أعرفه..

قلت له، وانا مستلقية أمامه، بعد عشاءنا وبعض كؤوس من قنينة "المزرعة الحمراء" نبيذنا المغربي المفضل القادم من جنان حد براشوة بهضبة زعير,

- آه يا تاسانو، أرجوك لا تؤلف لي قصة من وحي خيالك، كعادة الجمالين الذين التقيتهم طيلة رحلاتي بالصحراء، أرجوك، احك لي ماعشته، بدون كذب، وسوف أصدقك.

- لماذا تتهمينني باختلاق الحكاية والكذب ، يا تيحلي؟

هكذا كنا ننادي بعضنا، أسميه تاسانو (كبدي) ويناديني تيحلي (جميلتي)بامازيغية أهل درعة.

رددت عليه :
- كيف تحلم وتتغنى بجمال الصحراوية وفتنتها ثم تحكي لي عن وقوعك في أسر شقراء مسنة قادمة من النرويج؟

يضحك عاليا حتى تظهر أسنانه الحادة، التي فقد بعضها، وقد كساها صدأ مياه الشرب المالحة غير الصالحة للشرب، صفرة التبغ الرخيص وفعل "ماحيا" التمر المخلوط ب"أزوكني" مضافة له كمية هائلة من الكحول الطبي أبو تسعين درجة,أضحكه فضولي الزائد، من لهفتي لمعرفة أدق التفاصيل,
نفث دخان سيجارته ثم أجاب بنبرة حالمة وحزينة، مرتدا برأسه إلى الحائط الأحمر عابرا نحو سفر زمني، إلى ماوراء الحاضر وماوراء أورسولا نفسها :

- إنها حياتي الأخرى، ياتيحلي، لاحكم لي عليها، هذا ماوجدت نفسي عليه مذ عرفتني الصحراء وعرفتها، خالطت الأجانب ومحترفي السياحة والموسيقيين ورجال السياسة والثقافة بدرعة والشعراء والدجالين والرحل والقارين، وكل مواطنات ومواطني القارات من سياح وباحثين وانتربولوجيين ومغامرين ومكتئبين ومهووسي الجنس الغريب، بدءا من اللحظة حين رمى بي والدي، وأنا طفل العاشرة، تلميذا بالقسم السادس، إلى مشاق العمل، خلال العطل المدرسية، لدى أقاربنا من المرشدين السياحيين والجمالين وأصحاب الخيام بصحراء المحاميد، انطلاقا من عرق ليهودي وصولا لعرق الزهار..

قاطعته، ولعابي يسيل جوعا لتفاصيل أكثر، رغم إحساسي ببعض الشفقة عليه، وانا أدفعه للنبش في جثت الماضي ونكىء جراحها المندملة منذ سنين خلت :

- هو قدرك، أليس كذلك، ياتاسانو؟

- أجل، يا تيحلي، هو قدرمن أقدار أبناء جيلي ومنطقتي، جيل توالدت ذكريات طفولته وشبابه داخل أحشاء حياة عطشة لم يسقها سوى الجوع والفقر والحرمان والتهميش والبحث عن اللقمة المغموسة في الرمل والرماد والأشواك، نحن أبناء هذه الأرض المباركة، نحن المنسيون من طرف الملوك وحكام الرباط، نحن من صار آباؤنا جنودا بلا بنادق يحاربون الفقر والجوع، سلاحهم معرفتهم بالصحراء وخباياها وأسرارها وكنوزها وسحرها، يعرضونها على السائحات والسائحين، عارضين معها فحولتهم وسحرعيونهم وغموضهم الفاتن وحضورهم المثير والغامض كرجال صحراء، في المخيال الغربي,

هم آباؤنا، أبناء أجدادنا الذين عرضوا صدورهم للموت من أجل تحرير البلد من المستعمر الفرنسي، أنا سليل الأجداد والأخوال والأعمام من أيت عطا وأيت أحنصال من إيلمشان وأيت إيعزا، أنا سليل عسو وباسو أوبسلام، أبطال معركة بوكافر، رمى بي حظي التعيس هنا والآن، أبت الحياة، ابنة الكب، ألا تبتسم لي ولاترق او تلين..

قررت الأقدار، يوما من أيام رأفتها بي، أن تتجلى في هيئة ابتسامة شمسية لاتشبه شموسنا الحارقة حرقة قلوبنا على وطن خان وفاءنا، رأيت ابتسامة الحياة، ولأول مرة، دافقة كشلال ماء انبجس فجأة وسط الصحراء، كانت المفاجأة المنعشة سائحة شابة شقراء، بياضها الحليبي يعاكس سمرتي الداكنة، زرقة عينيها وصفاؤهما وسعتهما تغازل سواد عيوني وحدتهما، جسد ممشوق وفاتن كأنه تمثال عاجي، شهباء، مبهرة بطراوتها الملفتة وسط قحول المكان، شفافة الجلد الكاشف عن روح بريئة لم تطأها بعد خشونة يدين مثل يدي ولم يهز رحمها وتد مثل وتدي، ولا ذاقت للحب والهوى الوحشي طعما،

هاهي ذي تقع في حبي من أول نظرة، أنا الصحراوي، كل ثروتي جسد فتلت عضلاته مشاق الصحاري وأعباء الحياة والعمل بها، عينان تطلان من شاش أزرق ملفوف فوق رأسي أشعث الشعر، دراعية بيضاء واسعة بجناحين علتها صفرة الرمال وصندل جلدي تبرز منه أصابعي التي طالت منحوتة بالمشي الطويل عبر القوافل والرحلات والمغامرات والرعي. وقعت المسكينة، كما يقع الطير على رأسه، عند الهجير وسط البراري العارية كلما أبصر بئرا أو سرابا ظنه ماء..


-هل توقعت الشابة الشقراء سقطتها في براثن حبك الوحشي ؟

سألته، وقد استلذذت عودته إلى شغف البدايات

- ياتيحلي؟ صدقيني، جميع أهل السياحة بلا منازع، يجمعون على كون السائحات الشقراوات، بنات أوروبا وامريكا، وحتى الآسيويات، لاتأتين هنا إلا بحثا عن الجنس الوحشي، واما البحث عن التاريخ والجغرافيا والثقافة فهو آخر همومهن. أهل السياحة مقتنعون بذلك اقتناع المؤمن بوجود الجنة والنار، وما أنا إلا واحد منهم، خالطتهم طفلا صغيرا، فرأت عيني وسمعت أذني وشهدت حواسي من عظائم وقائع الحب والجنس بين رجال الصحراء ونساء الغرب مايجعل قناعتهم هي قناعتي بل هي يقيني بأنه الهدف الوحيد الأوحد في وصول إلى الصحراء.

- وهل علمتها فنون الحبن كما ينبغي وكما علمته لي، ياتاسانو؟

أشعلت أسئلتي المثرة رغبته في المضاجعة من جديد، هو يعرف جيدا أنها لعبتي المفضلة وطريفتي في المفاحشة لجعل نيران الشهوة تستمر حامية ملتهبة طالما أطل علينا القمر أوأضاءت نجوم سماء زاكورة الصافية ليالي أنسنا ومتعنا..





إرسال تعليق

إرسال تعليق