مونتريال2020
لماذا أكتب؟
ماذا حدث بالضبط؟ ما الذي جاء بي إلى هنا؟ كيف وصلت إلى كندا ؟
كيف اقتلعت نفسي من واحة درعة؟ بعدما انتشرت عروقي بها كنخلة غرسها الأجداد رغم أن مقامي بها لم يتجاوز، بأحلامه وكوابيسه، الثلاث سنوات وكأنها عمر بكامله؟
ما الذي يجعل امرأة خمسينية، جدة لطفلة جاءت كقطعة نور تضيء ظلام أيامها، تحزم حقيبتها اليتيمة بقليل من عدة الحياة ومتاع النساء، تجمع أوراقها ووثائقها، تتخلى عن عنادها بالبقاء والموت فوق تراب بلدها، تترك وراءها بيت أحلامها بالأطلس المتوسط لتتحول لمجرد لاجئة في بلدان الناس؟
من كان السبب في مغادرتي وهجرتي ورحلتي الأخيرة المتأخرة من المغرب؟ من دفع بي لاتخاذ هذا القرار الصعب بهذه المرحلة من العمر، قرار لم يخطر لي على البال يوما حتى في زمن الشباب؟
من المسؤول؟ قسوة أسرتي؟ جور رؤسائي؟ فساد دولتي؟ نفاق مجتمعي؟ ضعف حقوقي؟ رجعية قوانين بلدي؟ تخاذل حزبي؟ تخلي ابنتي عني؟ نذالة حبيبي؟
أم أني الوحيدة من تتحمل أسباب وعواقب كل ما جرى؟
هل علي الاعتراف بأن عنادي الزائد وتحرري المفرط وتشبثي بأفكاري هي سر معاناتي والدافع نحو هجرتي لبلدي وطلب لجوئي من بلد بعيد وغريب عني؟
هل تعبت روحي واهترأت نفسيتي وضعفت مقاومتي لدرجة فقدت السيطرة على غضبي وحزني ويأسي مفضلة ثلوج كندا على شموس زاكورة وجبال الأطلس وامتداد السواحل الغربية والشمالية؟
كيف تحولت من امرأة كانت ترفض رفضا قاطعا أن تهاجر بلدها إلى امرأة تعيش وحيدة منزوية ومعزولة عن ماضيها وذاكرتها وتاريخها بالمغرب؟
عشرات الأسئلة تنهش كياني وتدفعني، أحيانا، لحافة الاكتئاب والجنون، أستعين بالهروب منها بكل شيء متاح : بالدموع والكتابة والتناسي والحلم والكذب وحتى بالجنس والشرب، أحيانا..
واليوم، قررت أن اواجه مصيري، أن أعري جراحي لأنشرها تحت شمس البوح واكتب سيرتي، كما هي، عارية من كل شيء إلا من الحقيقة.
هي ليست رواية أو سيرة أو حكاية تنسب لجنس أدبي معين، وإنما هي قطعة لافحة من النار التي أحرقتني وحولت حياتي جحيما مستعرا أحرق كل آمالي في العيش بأمان حتى الموت باطمئنان فوف أرض المغرب، البلد الذي سقط به رأسي وكاد يفصل عن عنقي بيد أختي وعائلتي.
لاأريد من القارئة والقاريء شفقة أو تعاطفا أو رأفة أو دعما، كل ماانتظره، أن تصل حكايتي لرفوف المكتبات، تلتقطها أياد غضة كأيادي حفيدتي وبنات وأبناء أخواتي وتلامذتي، ليقرؤوا يوما ما، سيرة جدة وعمة وخالة ومدرسة اختارت الحرية مصيرا والغربة ملاذا واللجوء حلا لتحتفظ ببعض شجاعتها وجرأتها وثورتها لتكتب كما كانت تحب أن تفعل على صفحتها وتقول كل شيء عنها دون أن تدفع الثمن غاليا أو لتعتقد أن الاغتراب والابتعاد والعزلة هو الثمن المقابل للحرية.
حياتي محطات من تاريخ المغرب
تفرقت حياتي كامرأة مغربية ، كما يتفرق دم قتيل بين القبائل، عبر ثلاث محطات كبرى عبر جغرافيا وتاريخ المغرب، محطات حددت أسباب عشقي لبلدي وتعلقي به وهيامي به رغم كونه عاشقا قاسيا، أنانيا وساديا ، يتلذذ بتعذيب روحي ويسومها سوء العذاب ويجرجرها من شعرها جرجرة السيد للجارية في عصور العبودية عابرها وحاضرها.
فأما المحطة الأولى، فقد كانت مدينة الرباط، حيث ولدت ونشأت ولعبت ولهوت قليلا وخدمت ببيتنا كثيرا واستُغفِلت وعُنفت واحتجبت وتحررت ودرست بالمدرسة والجامعة العمومية وتعلمت وفرحت وتزوجت وأنجبت وعاودت الزواج ولم أعاود الإنجاب وناضلت وحلمت بمغرب أجمل ودرست أجيالا عديدة كبرت كالأشجار سريعا وأثمرت في غاية الحياة
محطة الرباط، طويلة جدا، بدأت بصرخة ولادتي بالحسي الصفيحي "دوار الكرعة " وانتهت بها، بصرخة أيضا، بحي الهرهورة، وأنا أُجاوِز الخمسين، على يدي أختي، ابنة رحم أمي وماء والدي، وهي تهوي عليّ بكل قسوة الذين نزعت من قلوبهم رحمة الاختلاف..
ثم بدأتُ مسيرة المحطة الثانية، بزاكورة، مسقط القلب والروح والحلم، زاكورة النخلة التي اتكأت على جذعها فآوتني واحاتها والخضراء وغسل ماء درعة جراحي الرطبة ونقّاها من تعفنات محطة الرباط، بزاكورة، عشت حياة بقدر ماهي قصيرة ومقتضبة لكنها غزيرة وخصبة وممتعة ومليئة، أيضا بالمطبات، حياتي بها كانت تشبه قصص ملك القصة القصيرة: أحمد بوزفور، كلتفاصيلها تشبه رواية ضخمة من أجزاء عدة، غير أنها كل كلمة فيها تساوي فصلا بكامله.
حياة زخرت بالحب والعشق ومغامراته مع رجال صحراويين منهم مَنْ عَبَرَ ومَرّ مرور غيم ربيعي ومنهم من استقر خنجر خنجر عشقه في تجاويف قلبي فمزقها ولم يستطع النسيان ولا الابتعاد رتقها..
زاكورة، وبلدتها أكدز وصحراؤها الشرقية، كانت محطة للعمل والتدريس بمقام العبادة، فأطفالها وشبابها من طبيعة الأرض والمكان، هادؤون، رزينون ، صبورون ومنتظرون للمعجزات..
زاكورة بلد السحر من قلب البساطة وسطوة الندرة وحظوة الفراغ، وزاكورة علمتني أن الهامش قد يرتفع على المركز بعظمة أهله وسخاء أخلاقهم ودماثة طباعهم...
زاكورة، هي المحطة التي اعتقدت، خاطئة أو مغفلة، بأنها ستكون الأخيرة والكبرى والبوابة نحو مدن الأمل التي رسمت تخطيطاتها وأنا ثملة بعبق تفتح زهر اللوز والرمان بداية الربيع، كانت هي السبب في تكسر أحلامي الهشة على أحجار جبل كيسان، لتعود بي مركبة أوهامي نحو الرباط، موجوعة، مريضة ومحطمة، هي التي ستدفعني لبيع شقتي والاستعداد للرحيل الأكبر نحو كندا...
وعند المحطة الثالثة، لم أكن أعتقد يوما أنني قد أركب قطارها السريع والخاطيء لأنزل بمدينة بني ملال، أقرر وضع جواز سفري المدموغ بختم تأشيرة كندا لمدة ثلاث سنوات في أحد الأدراج، وأترك قلبي الواهن يسقط مرة أخرى في عشق هذه المدينة وفي وهم مكان آخر ممكن يحتضنني من جسد هذا البلد الذي يلفظني كما يلفظ رحم امرأة جنينا ميتا.
مارست علي جبال وأشجار وشمول ووديان بني ملال سحرا طافحا وأخرجت المدينة والقرية تعويذاتها لتأسر قلبي وتغري وعيي الزائف بأن هاهنا حياة ممكنة وأفضل، وأن ماحركت منه بزاكورة أستطيعه هنا، أوَ ليست هذه قطعة أخرى من بلدي؟ أوَ ليس لي الحق، كامرأةٍ وحيدة، العيش بسلام وأمان وسط سكان هذه القرية المتناثرة المساكن فوق شلالات عين أسردون؟
خضعت للإغراء، لم أقاوم سلطة ضعفي أمام جبروت الهامش والرغبة في الانعزال ومجاورة الساكنة الأمازيغية البسيطة العيش والمطالب، اقتنيت بيتا مهجورا تركه صحافي وروائي معروف، أسكتت هواجسي ومخاوفي وأنا أطّلعُ على قصته الحزينة والغريبة في أسباب ابتعاده عن البيت الذي ظل يحلم باقتناءه وبناءه والمكان الذي أفنى فيه أكثر من خمسة عشرة سنة من عمره مناضلا محاربا من أجل مصالح أهل القرية، مواجها السلطات والأعيان بصدر عار وقلمٍ من سمين مشحوذ
لم أمكث بالبيت بنية إصلاحه..
المحطة الأولى: مستشفى الرازي: مارس 2015
حضرت ضمن الأوائل ذلك الصباح، أني أعرف جيدا واقع هذا المستشفى، فعائلتي القريبة والبعيدة مرت، تقريبا، كلها من هنا. بعض إخوتي، أخوالي واخوالي أمي وأبي وأعمامهما وبعض الأقارب الآخرين الذين كنت أزورهم رفقة والدي وانا بالكاد طفلة عمرها ست أو سبع سنوات، مرضى نفسيون ومصابون عقليون عديدون، أيضا، كانوا يزوروننا بادية الرحامنة، أصل أجدادي، فيقيمون ببيتنا بالرباط أسابيع وشهورا منتظرين دورهم للاستشفاء بمستشفى الرازي.
كنت اتعجب كثيرا من هؤلاء الزوار من عائلتنا، عائلة أمي وأبي واحدة، هما أبناء عمومة، لدرجة كنت متأكدة أنني لما أكبر سوف يأتي دوري لأعالج بهذا المستشفى. كان الأمر يبدو لي قدرا محتوما لن أهرب منه ولو اختبأت تحت الأرض, شيء ما لا أدرك كنهه يلقي بهذه العائلة نحو غياهب الجنون والعته والمرض العقلي والنفسي بشتى تمظهراتهما ومازال الأمر مستمرا لإلى اليوم مع الأجيال الجديدة من هذه العائلة.

إرسال تعليق