لاجئة

الحسين الوردي : وزير صحة من البلاستيك

 


"إن التضحية بالنفس، هي شرط الفضيلة - سقراط 

مرت علينا عشرة أيام، بعدما خرجنا ذاك الصباح الباكر والقارس وجعا وحرقة،  أكثر منه بردا، كان جليل قد استفاق قبلي واستفاقت كل أسرته متأهبة لتوديعنا، اتجهت بنا سيارة طاكسي "كورصة" لصاحبها الرجل الطيب التسركاتي، من دوار أوريز بأكدز نحو مستشفى الشيخ خليفة  الواقع في حي الولفة بالبيضاء، قطعنا عشر ساعات على الطريق، كانت الثلوج تغطي قمم تيشكا، أذكر بياضها الذي كلما رأيته، تذكرت  مكالمة الحسين الوردي، وزير الصحة آنذاك، عندما رن هاتفي برقمه، وكنت، من قبل،  أرفض أن أجيبه....قضينا لحد الآن، عشرة أيام من التواجد بالبيضاء، بين الفندق والمصحة، حيث صنع الطب معجزته، بدا في إنقاذ رجله اليسرى التي كان يفتخر بها هذا الشاب ذو التسعة عشر ربيعا، كلاعب كرة قدم في فرقة الحي، ومع ذلك غامر بها، ذاك الأحد من شهر أكتوبر،  ذاهبا للعمل في جني التمور، منتعلا صندلا بلاستيكيا، ليساهم، كرجل صغير، في  مصاريف دراسته وأعباء أسرة فقيرة لم يترك لها الأب المتوفي قبل شهور، سوى بعض الديون وشاحنتين، وكثيرا من الأفواه المفتوحة، أخرجها رحم زوجتين، أربعة عشر فما جائعا وثمانية وعشرون يدا ممدودة نحو الخبز،  قررت شوكة نخل صغيرة، أن تغير حياته وحياتي للأبد، فاخترقت قدمه، لتبدأ مأساته الكبيرة، مأساة تاريخية لكنها مألوفة، لدى كل سكان المنطقة، إهمال طبي محلي وإقليمي، تتعفن رجله ولن ينفعه تدخل جراحي متكرر ومتهور لطبيب شاب مهمل بالمستشفى الاقليمي بورززات، كل شيء كان ينذر بحدوث كارثة صحية، زرته هناك، ذاك الصباح من أربعاء نونبر 2016، بعدما قررت أن أتحمل مسؤولية علاجه بكل الوسائل الممكنة وغير الممكنة،، استجابة لطلب وإلحاح زملائي ومدير المؤسسة، كانت حالته سيئة جدا،  تعلن عن احتمال تحول هذا الفتى اللطيف الخجول لمشروع معاق برجل واحدة، تقضي على دراسته وحياته وأمله في وجود كريم، في بلد لايجد فيها السليم المعافى فرصته للعيش الكريم، فمابالك بالمعاق. 

ولأن أكدز، هي تلك الجوهرة التي تتوسط العقد، عقد واحة درعة الممتد من مصب نهر درعة بإيميني ومضايق دادس حتى المحيط الأطلسي بطانطان، فأهلها كرماء وممتدون أيضا، عبر ربوع الوطن، يشتغلون خارحها أكثر من داخلها، ليعيلوا أسرهم كما يفعل كل سكان الجنوب الشرقي،  وليعودوا في الأعياد محملين بالخيرات والهدايا والأموال ،يقيموا الحفلات والولائم والأعراس.

 كانت مريم، واحدة من بنات أكدز، لاتجمعها علاقة قرابة مع جليل وأسرته،إلا أن دمها جرت به مياه درعة العذبة، واختلطت بجلدها رائحة التراب الواحي، فانسابت بقلبها محبة أبناء البلد، انسياب مياه النهر في تربة الوادي، علمت، كالكثيرين، عبر الفايسبوك، خبر إصابة ابن بلدتها ورأت صور رجله ببشاعتها وإهمالها المؤلم والصادم، وسألت أين يوجد يوجد بالبيضاء، ومن تكون أستاذة الفلسفة التي ترافقه في رحلة علاجه، بحثت عن رقمه ورقمي، اتصلت بنا، وألحت على استضافتنا، فلبينا الدعوة، لأكتشف سيدة درعاوية، سخية كنخلة، كريمة كظل صفصافة عند القيظ، شهمة ككل الفلاحات والفلاحين بأرض مسقطها، كان اليوم يوم جمعة ماطر وبارد، أدفأته حرارة الاستقبال، وعناق هذه السيدة وبناتها لنا، زادته  حرارة تلك القصعة الباذخة من كسكس باللحم والخضر، سبقها استقبال بالشاي والحلويات، وختمتها تحلية بالفواكه والشاي والحلويات، مرة أخرى، جو بارد وماطر، بالخارج، دفء وحفاوة وإنسانية بالداخل، لازالت هذه المشاعر الحارة والمذاقات الحلوة اللذيذة، تغرز ذكراها الجميلة والحلوة والقوية في جدران قلبي، وتعبر جماليتها تجاويف ذاكرتي، لايمكنني أن أنساها حتى وإن نسيت اسمي، مريم، لم تكن ربة بيت ماهرة، فقط، بل متعهدة أكل للشركات والمعامل، تشتغل تحت الطلب،  ببيتها البسيط بحي البرنوصي، المنير سعادة والدافيء بروح الإنسانية والكرم والحب الأسري، من عيني مريم، كانت تشع فرحة وتوثب غريب، وكلام عن الواجب اتجاه ابناء البلد،. يومها، لم يكن لدينا اي موعد بالمستشفى، فتوجهنا، نهاية الصبيحة، نحو حي البرنوصي، منطلقين من فندق "إبيس كازا نيرشور" حيث كنا نقيم، مستقلين سيارة "أوبر"، لنجد في استقبالنا، أسرة اكدزية من أم وأب وثلاث بنات، تقطن  منزلا سفليا بسيطا، مرتبا ومزينا بعناية ربات البيوت البيضاويات الحاذقات،   أسرة بسيطة أكدزية بسيطة تسكن حيا شعبيا بالبيضاء، لمنها تملك ثروة خيالية من العطاء والبذل، لاتملكها أسر غنية بالرباط والبيضاء، لقد استعدت كثيرا من الأمل والأمان، بفضل السيدة مريم، وعندما لمحتها، تضع مبلغ 500 درهم بجيب جليل، مرغمة إياه على أخذها، معتذرة عن قصر يدها، بسبب مرض أمها ومساهمتها في عمليتها الجراحية، أيقنت أن الخير مازال موجودا بيننا، رغم سحابات اليأس والقنط، ودعتنا، هذه الأسرة الطيبة وودعناها، تحت قطرات  المطر الخفيفة، بعد قيلولة صغيرة، ركبنا سيارة الطاكسي متجهين نحو الفندق، نزلت بعض الدموع من عيني وأنا أتذكر الكلام البلاستيكي الكاذب لوزير الصحة ، عندما هاتفني، ونحن في قمة تيشكا، وبعد ذلك مرات :" هذاك راه ولدنا ياأستاذة وخاصنا نعالجوه ونتهلاو فيه... "

إرسال تعليق

إرسال تعليق