اليوم، 14 ماي، عيد الأم بكندا…
أمي، تعرفين أني أتمزق كستارة ورق اخترقتها رياح الجفاء، أشتاق لروائح مطبخك، لذكرياتي الكثيفة، وأنا طفلة دائمة الخوف، كبرت قبل الأوان تحت سلطتك، لابتساماتك القليلة في وجهي عرفانا برضاك لمهمة منزلية شاقة قمت بها على أكمل وجه،
ماأشتاق له أكثر، هو تلك الأيام من رمضان طفولتي، كنت تستيقظين لطهي خبز السحور تعجنينه بيديك قبيل العشاء، تعدين الموقد، قبل جلب أبي قنينة الغاز الصغيرة،
كلي حنين للزمن البعيد، أبعد مما فرق بيننا ونحن على مرمى حجر من القطيعة التامة، أشتاق بقوة ، لتلك الحركات من يديك وجسمك وعينيك ووجهك الأبيض الشهي كرغيف " المطلوع" الذي تعدين.. كنت أراقبك بالعرض البطيء، مقرفصة أو جالسة على كرسي خشبي صغير، يصعد دخان الفحم أو أعواد الخشب إلى عينيك السوداوين الواسعتين فيدمعهما، تمسحينهما بكم تحتيتك القطنية، تمررين مرفقك على شعرك الفاحم الحريري المنسدلة غرته على جبينك الأبيض المضيء، خصلات ناعمة تتسلل من غطاء رأسك المزركش بوردات كبيرة حمراء وخضراء، يتورد خداك من أثر الحرارة،
وأما بأيام الحر، حين يصادف رمضان شهور الصيف، كنت تمارسين طقس طهي خبز السحور فوق سطح بيتنا الواطيء، وكأنك غمامة طراوة تنزل قبيل الفجر، في تلك اللحظة الساحرة، بين ظلمة الليل وانتظار الفجر، تهب نسيمات بحرية خفيفة، تلطف من حر الجو وحرارة الموقد والفراح الطيني الأحمر، تحملين العجين المدور كوجهك القمري، ترمين به بحركة حانية لكنها متماسكة، يسقط في وسط الفراح، يبهرني تمكنك من كل شيء، كنت أستمتع المشهد برومانسية طفلة حالمة تستعد لمستقبل أسود بدون رغيفك الأبيض ووجهك البلوري تزهر خدوده بفعل نار الموقد وحرارة الصيف،
هل كنت أخمن أن الأيام ستحرمني من الآتي المخيف لتسجنني في ماضي اللذيذ والقصير إلى جانبك؟
انا ابنتك الكبرى، تلك التي صارت تؤلمها الروائح والأسماء ووجوه الأمهات أينما حضرت، وتخالف أعياد الأمهات بين العرب والغرب وشمال الأرض وجنوبها، تجرحني احتفالات الكنديين بأمهاتهم وأنا يتيمة أمّ بالحياة،
سكنني شوقي إليك، ياأمي الهاربة من حاضري، المستوطنة تجاويف ذاكرتي الطفولية البعيدة، ستظلين حية واقفة كصفصافة، يلفني ظلك، كلما لفحني لهيب الشوق، أعدك أن أحاول تعلم النسيان والصفح، كما يتعلم عصفور جريح الطيران بعد الشفاء.
رغم كل متاريس القسوة والجفاء التي بناها الظلام والرياء والنفاق الاجتماعي بيننا، رغم اختطافك ووضعك رهينة المصلحة، أتمنى لك ياأمي، القريبة-البعيدة عيد أم تتذكرين فيه، أن أبناءك وبناتك الستة، قد نقصوا اثنين، واحد تحت التراب والثانية وراء السحاب..
وكل عام وأنت أمّي ياأمّي..
إرسال تعليق