الصحراوي

طاكسي الشريف مولاي اسماعيل بين أكدز وتامنوكالت

 

مضت أربعة أشهر على قدومي لأكدز، صيف 2016، بعد قبول طلب انتقالي إليها من الرباط، لشدة فرحي، تنازلت عن مهمة حراسة تلامذة الباكالويا، مريحة إياهم من تشددي وصرامتي التي تبدو لهم بليدة جدا وبلا معنى في زمن الردة التعليمية، أكريت شقتي لشاب أمريكي، بكل أثاثها، إلا كتبي وملابسي وبعض القطع الشخصية المرتبطة بتاريخي الطويل في مسقط رأسي، وضعت كل شيء ونفسي التواقة للهدوء والسكينة والابتعاد عن الأسرة والذكريات الأليمة.

 داخل سيارة "بارتنر" يقودها شاب، بعدما تفاهمنا على مبلغ الرحلة، من الرباط نحو أكدز، وعند اكتمال الأربعة أشهر ،بعد بحث مكثف عن بيت طيني قديم، حتى رغم تعرضي للنصب والاحتيال من طرف مؤذن مسجد بأكدز، من حارة شعو، يدعى أيت لامين، استولى على مبلغ مالي مني، دون أن يمكنني من السكن ببيته، عثرت أخيرا، بفضل صديقي عبد الرحيم، على بيت طيني شاسع وواسع، بل أوسع من انتظاراتي، تمتلكه عائلة بوسكار، من أحسن وأطيب عائلات أكدز وتامنوكالت، الدوار الذي ينتمي للجماعة القروية مزكيطة، الممتدة بغنج ودلال الصحراويات السمراوات على مشارف واحة درعة، تسند ظهرها لجبل كيسان الواقف كحارس أمين يحميها من كل خطر متوقع/.

 وجدت البيت الطيني الذي كنت أحلم بممارسة خلوتي به، وانعزالي المختار عن الناس متى تعبت روحي منهم، وتعبوا من مزاجي الهش، الذي كسرته الأيام والمحن والغدر، أحببت البيت وشرعت في تأثيثه بما جادت به أيدي نساء  الدوار الصانعات الوديعات  ببيوتهن من زرابي وأغطية وحصير ومناديل وغيرها، وماتبدعه أيدي الصناع من خشب وجلد وماإلى ذلك من منتجات، استعنت بيدي بستاني من الجيران لتحويل ساحتي البيت الداخلية والخارجية لحديقة، كل شيء كان يسير كما أريد، إلا شيئا واحدا، مشكلة التنقل من تامنوكالت إلى مقر عملي بأكدز والعودة منه، عبر سبع كيلومترات، طريق جميل على وادي درعة بين النخيل وأشجار الرمان واللوز والزيتون، بين حقول الفصة، وعلى امتداد القصبة ومنازل الضيافة الجميلة، ولأن برودة الشتاء القارسة ولفح شموس الربيع والصيف الحارقة، وضعتني في مواجهة أحلامي واختياراتي هاته، فلم يكن يإمكاني شراء سيارة، نسيت استعمال الدراجة الهوائية، ودون كيفية قيادة دراجة نارية، فلم يكن الحل، سوى سيارة طاكسي مولاي اسماعيل، أو الشريف، كما يناديه الجميع، في دوارنا كما في كل أكدز، لقد كان الطاكسي الوحيد الذي يربط تامنوكالت وتافركالت وصولا إلى أفرا، يظل الشريف متنقلا بالناس، منذ التاسعة صباحا، إلى حدود الثامنة ليلا، مقتطعا لنفسه وقت راحة بين أحضان أسرته الصغيرة، منذ آذان الظهر إلى مابعد صلاة العصر، ماعدا يوم الخميس، موعد السوق الأسبوعي، حيث تغير سيارات الطاكسي الأخرى اتجاهاتها نحو دوارنا وجماعة مزكيطة، وكذلك سيارات "النقل المزدوج" وعدد لابأس به من الخطافة، لم أكن أجد مشكلا في تنقلاتي، لأن الجميع كان يعرفني، وحتى من لايعرفني، كلما وقفت على ناصية الطريق.

أمام دكان الحاج امبارك، والد الشريف صاحب الطاكسي، إلا وتوقف لأجلي السائقون، والذين هم،دوما، ذكور، يركبون لوحدهم، أو يحملون أقارب وزوجات أو أصدقاء وزملاء عمل، يتوقف السائق، أسأله إن كان ذاهبا لمركز أكدز، يجيبني بأدب واحترام دون إطالة النظر في وجهي :" نعم ركبي يا أستاذة مرحبا" لم يحدث كثيرا، وسوى ناذرا، ان تجرأ أحدهم وسألني عن خصوصياتي، من اسم ووضع عائلي وسبب القدوم وغيره من أسئلة الفضول، قد تمر الرحلة بصمت تام،  سوى من ترديدي من حين لآخر لعبارات الشكر، فلاأحد يطالبني بمبلغ التوصيلة، ولاأحد يجرؤ على طلب رقم هاتفي، أقفل الباب عندما أصل، أحيانا لغاية باب الثانوية، شاكرة وممتنة ، بينما يهش السائقون رؤوسهم مع ابتسامة رضى، كانت رحلات عودتي من العمل، كل مساءات الأسبوع، على متن سيارة طاكسي الشريف، بمثابة متعة حقيقية، لازالت تفاصيلها مخبأة بعناية بين دفتي ذاكرتي، طرية جدا كجرح مغادرتي للبيت الطيني ولتامنوكالت والقصبة والدوار وكل مشاريع حياتي المعلقة هناك، كانت السيارة التي عليها ان تحمل ستة ركاب، تتحول إلى عربة بإثني عشر راكبا، إضافة للمشتريات من خضر ولحوم وبقالة وقنينات غاز وكل مستلزمات الركاب المعيشية، يمتلئ صندوق الطاكسي الخلفي وحامل الأمتعة الفوقي، نتكدس جميعا، رجالا ونساء وأطفالا، الجميع يبتسم، يتحدث بصوت خافت، وبأمازيغية رنانة كأغنيات الصباح، نساء من كل الأعمار ورجال كذلك، نتزاحم ونتعانق لفسح المكان لزبون آخر قادم، حتى لايبقى بالمركز، تضحك النساء كثيرا، وأحاول فهم أحاديثهن، وصرت مع مرور الأيام، من الوجوه المألوفة، يناديني الجميع "الأستاذة" بعدما كانوا يعتقدون أنني "نصرانية" تعرفت خلال هذه الرحلات الدافئة والمزدحمة، على عدد من نساء تافركالت، الدوار المجاور لدوارنا تامنوكالت، كنت أذهب مع مولاي اسماعيل، حتى هناك، لينزل زبائنه، وفي كل مرة أنزل لتنزل سيدة او شاب أو شيخ أو رجل كهل، يسلم الجميع على الجميع كإخوة وأهل وأقارب، لاينظر الرجال إلى أجساد النساء، ليس لأنهن ملتفعات بملاحفهن الملونة أو حايكاتهن السوداء ، بل حتى جسدي الملفوف في ملابس عصرية في أغلب الوقت، لم يكن محط نظرات الذكور،.

كان هناك احترام وحشمة وخجل، يثير انتباهي ويدفعني دوما للتساؤل عن سر ذلك، ولأني خبرت طبائع أهل كثير من المدن، من شمال المغرب ووسطه وجنوبه، مدنه وقراه، بكل أوساطه الأجتماعية وطبقاته، فإني لم ألمس في أي منطقة، ماعدا الأطلس، مالمسته هنا، بمزكيطة وأكدز وزاكورة، من معاني احترام ولوج المرأة للفضاء العمومي، رغم أنها لاتتملكه، وقد كانت لفترة قريبة، محرومة من الدراسة، واليوم، تركب النساء من مزكيطة بطاكسي الشريف، وبكل طاكسيات الواحة، جنبا إلى جنب مع الرجال، وتركب كل فتيات الإقليم من كل الدواوير، رفقة زملاء الدراسة بالثانويات، قادمين معا للمؤسسات، في سيارات النقل المدرسي الصفراء، التي وفرتها الجماعات المحلية أو الجمعيات المدنية، صيفا وشتاء، صباحا ومساء، للدرس والتحصيل، وكم ركبت رفقتهم وأنا ذاهبة للعمل، فلاتحرش ولاابتذال ولاعدوان، الحياة هنا، بعيدة جدا عما يدور في بوثقات الشر بالمدن الكبرى، حيث التخطيط الخبيث لفصل النساء عن الرجال، في وسائل النقل، إنها نعمة الهامش، وليس أي هامش، إنها زاكورة ولاشيء غيرها أو يشبهها....

إرسال تعليق

إرسال تعليق