لاجئة

عندما اشتغلت أول مرة بمجزرة الدجاج، هربت منها بعد نصف يوم..

 مجزرة الدجاج ب Drummondville : كان هو أول عمل جربته، شهر شتنبر 2020، بعد فترة الخروج الأولى من الإغلاق القسري بسسب وباء كورونا..

أصابني القرف والضجر من الانعزال المزدوج، رغم توفري على مايكفيني من المال لمدة سنة تقريبا..

تسجلت مع مكتب تشغيل بشرق مونتريال، على صفحتهم بالفايسبوك، ام الاتصال بي هاتفيا بنفس اليوم، مُنحت موعدا  للقدوم في الغد لإتمام التسجيل..

لم يخطر ببالي أن أبحث على موقع تلك المدينة حيث توجد المجزرة التي اخترت العمل بها ضمن ثلاث اختيارات اخرى بثمن 16 دولارًا للساعة.

بالمكتب الموجود بشارع Jarry، وجدت شابتين في الاستقبال، غارقتين بين ملفات المرشحين والإجابة على أسئلة الحاضرين والهاتف الذي لايكف عن الرنين.

أكملت تعبئة المطبوع، لتخبرني إحدى  عاملات الاستقبال، أنني سوف أبدأ في الغد، أن سيارة نقل العمال ستمر بباب منزلي على الساعة الرابعة صباحا !!

أجل الرابعة صباحا، أعجبني الأمر وأثارني، قلت لنفسي : هاهو أول عمل لكِ في سلسلة حياتك كطالبة لجوء، تشتغل بمهن يدوية، أو مايسمى هنا ب Travail général 

شغل يعبر عن حياتك الجديدة ومن كنتِ ومن  أصبحتِ وكيف تصيرين..

لم أنتبه أو أسأل، لشدة فرحي بفرصة للخروج المنتظم من بيتي بعد طول خمول واستسلام للوحدة والقلق والندم والخوف من الآتي الغامض..

في الليلة السابقة، أعددتُ وجبة غدائي، وضعتها داخل حافظة زجاجية ثم داخل حقيبة ظهري، لم أكن قد اشتريت " علبة الغداء" أو مايعرف هنا ب Lunch Box، استيقظت على الساعة الثالثة صباحا، أخذت دشّا فاترا، أعددت  كأس قهوة، شربتها، نظفت أسناني، وهاهو السائق يرن  عليّ في الهاتف لأخرج..

كنت العاملة الأولى في رحلة نقله، بعدها مرّ على عاملتين بحيّ Saint Michel ، ثم شابان بشارعPIE  IX

اكتملنا خمسة عمال، كانوا كلهم بعمر بين العشرين والثلاثين وكنت أكبرهم سنًا ..

نام أغلبهم، بقيت عيناي جاحظتين تراقبان الطريق الطويل ومنظر طلوع الشمس والطريق الطويلة تحرقها عجلات سيارة " الدودج " والسائق الخمسيني الهايتي الأصل ، بالكاد يتكلم منصتا لصوت " راديو كندا"..

أصبت بصدمة حقيقية، عندما أدركت أن المسافة بين مقر العمل ومونتريال، هي ساعتان بالسيارة، أي أربع ساعات ذهابا وإيابا..

حين أنزلنا السائق بالضيعة، أخبرته بصدمتي فقال لي :

- هل تريدين أن تعودي معي، ياسيدتي، أم تظلين هنا !!

- لا لا، مادمت قد وصلت، فلابد لي من التجربة والحكم على طبيعة العمل بنفسي..

اشتغلت ثلاث ساعات تقريبا، بعد اختبار من طرف المشرفة، حصلت فيه على 9/10 مما أثار دهشتها واستفسرتني:

- لمَ أتيت للشغل هنا ياسيدتي وأنت بمؤهلات معرفية عالية؟

- أنا طالبة لجوء، لدي رخصة عمل مفتوحة وأريد الخروج من العزلة والاختلاط بالناس حتى ولو في هذه الظروف..

سلمتني السيدة " سوزي" عدة العمل: حذاء بلاستيكيا يبلغ الركبتين، وزرةً نايلون بيضاء، مريلة بلاستيكية، قفازات، حفاظة الشعر، سماعات للحماية من صوت آلات تقطيع وتنظيف الدجاج الحادة، ثم قناعا يغطي وجهي بكامله..

أدخلتني المجزرة، أخبرتني بأن صاحبها إيطالي لكن الجزارين مسلمون يذبحون على الطريقة الحلال، وهو أمر عرفت فيما بعد، بأنه مجرد دعاية..

لم أتصور ولو لمرة واحدة بحياتي، بأن عملية ترييع الدجاج وتنظيفه وتقطيعه، كما علمتني إياها أمي وانا ابنة العشر سنوات، سوف تصبح عملًا لي بهذا البلد، أستيقظ قبل الفجر، أستحمل الصوت الحاد للآلات، تتحول حركاتي لمجرد آلة تقوم بنفس الدور المتكرر..

حين انتهت الدورية على الساعة الثانية ونصف بعد الزوال، كانت أو عاملة أكلمها في غرفة الاستراحة، لبنانية الأصل، في الأربعين، وجهها متعب وشاحب، قالت لي بالحرف :

- أهلين بك هنا حبيبتي، بس لازم تسكني هون بالدروموفيل .. لأنو مابدك تتنقلي على كل يوم، صار تموتي قبل الآوان..

فعلًا، كان كلامها  صوابًا، فحين نزلت من سيارة سائق الشركة عند محطة الميطرو سان ميشال أخبرته ألا يأتي لي غدا صباحا لأني  لن أعود لهذا العمل..

ثم إني لم أطالب أبدًا بأجرة ذاك اليوم، رغم الاتصالات المتكررة والملحة من مكتب التشغيل..



إرسال تعليق

إرسال تعليق