الصحراوي

الصحراوي 6 : لقاء بتاكونيت

 



من امحاميد الغزلان نحو ورززات، ركبت سيارة أجرة ثالثة، الأولى، انطلقت  من مركز امحاميد الغزلان، من أمام مقهى " تاراكالت" نحو مركز زاكورة، الثانية، من محطة سيارات الأجرة بزاكورة، المحاذية للمسجد الأكبر، نحو مركز بلدية أكدز، بينما الثالثة فقد كانت من محطة أكدز، حيث تتجمع طاكسيات كل الاتجهات وكذلك الحافلات، في المربع المرتفع، قرب بازار "الصحراوي" الذي سيشتغل به سنوات بعد لقاءنا هذا.
 
 كان الزمن ربيعا قائظا كعادة ربيع زاكورة، حين عطلتي المدرسية الربيعية لموسم   2016، قررت خلالها شد الرحال من الرباط إلى امحاميد الغزلان، عبر حافلة " الساتيام" متحمسة  للمشاركة في تخليد اليوم العالمي للأرض، بدعوة من جمعية " الزايلة" وشركائها بمؤسسة " جذور الصحراء" الهولندية والفنان عزيز السحماوي وفعاليات ثقافية وفنية وجمعوية وتربوية تعرفت على بعضها عبر الفايسبوك والبعض الآخر بعين المكان.
 
لأسباب وتفاصيل غريبة تمتزج  فيها التراجيديا اللحظية بالسخرية المجالية وبعض الجنون الذي يركبني، كالعادة، وقعت في مشكلة سحب النقود من الشباك الأوتوماتيكي الوحيد بمركز امحاميد الغزلان,  لم أنتبه للأمر نهائيا، بل لم يخبرني به أحد ممن هم حولي.
 
تساءلت بحيرة، كيف لوجهة سياحية كهذه، يؤمها آلاف السياح الأجانب، من مختلف بقاع الأرض، كل شهر، بل كل أسبوع، من الخريف إلى نهايات الربيع، لا توجد بها وكالة بنكية واحدة، ولاحتى موزع مالي أوتوماتيكي،  بينما الشباك البريدي الوحيد واليتيم، معطل عند الخدمة. 
 كيف يفعل السياح الأجانب لو احتاجوا النقود؟ جاءتني الإجابة صادمة :
- السياح، يتعاملون بنكيا مع حسابات المستثمرين السياحيين مغاربة كانوا أم أجانب، بالخارج.
 أرسلت لي حسناء، صديقتي الرباطية، مبلغا عبر البريد، إذ لم أستطع استعمال بطاقتي البنكية، طلبت من السائق، ونحن على مخارج زاكورة، أن يقف بي قليلا، لأعيد محاولة سحب النقود من وكالة مصرف المغرب، استغناء مني عن صرف مابعثته حسناء، من جديد. أشرع بالنزول، سمعت صوت شاب آت من المقاعد الخلفية يقول :
- أستاذة، غير خليك حتى لورززات دابا يصرط ليك الكيشي لاكارط
التفت ناحية الصوت، وجدت شابا ثلاثينيا، قصيرالقامة، بعض الشيء، ملامحه أمازيغية واضحة، أسنانه تحول لونها إلى البنّي، كأغلب من يشربون من المياه المالحة لوادي درعة، زادها قتامة، شراهته في التدخين،  أشعل سيجارة وهو ينزل من السيارة، مستغلا ذهابي للشباك الأوتوماتيكي. لم يكتف الصحراوي التاكونيتي، بتوجيهي ونصحي، بل أخبرني أنه طلب، قبل ذلك، من السائق، أن يتوقف له، أيضا، كما فعل معي، أمام مدرسة صغيرة، على بعد كيلومترات من المدينة الحارة، ليسلم على والده العجوز.
 حين رآني أستعطف السائق، مرة أخرى، لمعاودة التوقف من أجل شراء قنينة ماء، أرغم السائق على توقيف توقيف سيارته عند قدمي رجل سبعيني بلحية بيضاء ونظارتين طبيتين سميكتين، أسود كنخلة محروقة،  صلب العود، من وقفته يظهر عليه أنه كان عسكريا قديما. 
نزل الصحراوي، قبل رأس والده، دسّ بيده اليسرى، ورقة نقدية زرقاء، عاود تقبيل يد والده المعروقة، خطا ببطء عائدا نحو الطاكسي راضيا مرضيا ونظرات والده تشيعه بامتنان.
 
لاأتذكر كيف استرسل التاكونيتي في سرد سيرته، حكايات تقاطع أخرى، كأنها قطع مربكة متناثرة، مآسي تجعل القلب يعتصر، آهات هنا وحسرات هناك. حكى لنا عن الزمن حين يشتغل حمالا للقمح بتاكونيت ويدرس في نفس الآن، بثانوية البلدة، عن والده الذي تزوج امرأة ثانية صغيرة السن، مهملا والدته وإخوته، كيف صار، رغما عنه،  المعيل الوحيد لكل أفراد أسرته، بينما والده يرفل في نعيم اللحم الطري لزوجته الجديدة.
 
 حكى عن كيف اجتاز البكالوريا الحرة، عن المنتخبين الذين طرق أبوابهم وصدوها في وجهه،  من أجل منحة جامعية بجامعة ابن زهر بأكادير.. حكى كثيرا عن خبرته في البحث عن مدارس التكوين الفلاحية، تلك التي تضمن له الأكل والاستحمام والمبيت مجانا، عن كيف نجح في خمس مهن، هكذا، مرة واحدة..
 
استرسل مسهباً في الحديث، مستحليا صمت الراكبين والسائق، باحثا عن إبهاري، أنا المرأة البيضاء الغريبة القادمة من العاصمة العصية على الإدراك. قال بأنه كان أهم تقني مضخات مائية بضيعة الأمير مولاي هشام بتارودانت....تحدث عن خطيبته "الأستاذة" بأولاد برحيل، تلك الرودانية التي يعتبرها زوجته شرعا، لأنه مسلم ويحق له الاستمتاع بها بحق الدين الإسلامي دون انتظار عقد زواج أو عرس أو شهود..
 
كنت أستمع إليه،  كما يستمع الركابالخمسة الآخرون ومعنا السائق،  كانوا جميعا ذكورا من الشباب بسنه أو يقل عنه قليلا. كان سائق الطاكسي، الذي كنت أجلس بجانبه،  متجاوبا مع حكاياته لحد كبير، يظهر أنه يعرف  قصته وقصة والده المشهوربزاكورة، على أنه أحسن مصلح لدراجات الياماها..
 
كلما استرسل التاكونيتي في حديثه، تأكد لي، بالملموس،  بأنه مأساة مغربية جنوب-شرقية متحركة، ومع ذلك فهو يملك قدرة خطيرة ومثيرة في الحكي وسرد التفاصيل والوصف. كلامه بسوداويته، مضحك ومستفز في نفس الآن..
 
 جرني حكيه، مع طول الطريق الصحراوي،  لإطالة أذني وإرخاء سمعي لحديثه الذي لم يتوقف لثلاث ساعات متوالية، ثلاث ساعات وسط طاكسي يعبر الطريق الوطنية رقم 9 بنخيلها ودواويرها وجماعاتها ذات البيوت الطينية الحمراء المهترئة أو الإسمنتية الناشزة وسط طبيعة جرداء إلا من بعض الشجيرات المتناثرة على جنبات وادي درعة وسواقيه. 
 
فجأة،  التقطت هذا  الحوارالأول، الذي دار بينه وبين مجاوريه بالمقعد الخلفي :
- شوف، الرواح ممكن داويه بأنك تشد قشور الحامض والليمون والزعتر وتطبخهم وتشربهم..
- والو أصاحبي ماكينفع معايا والو هادشي الطبيعي
- كاينة طريقة حلال : اضرب ليك شي خمسة ديال الجوانات متابعين وتبعهم خمسة ديال البيرات باردين وتفكرني...ههههههه
 
انفجر جميع من في الطاكسي ضاحكين، ليسترسل في وصف نفسه وقدراته ومعارفه وحروبه الدونكيشوطية مع جميع أنواع المآسي التي يمكن أن يعيشها شاب فقير ومعوز من الجنوب الشرقي المغربي:
- أبي لايسمى الحمزاوي أو الناصيري،  لا معارف ولا مغارف لي بالرباط تغرف لي من الحظ مقدارًا، تضع الزيت في محرك دراجة وقتنا والشحم في علف دوابنا والعلك والعنبر  في براريد شاينا. 
الصحراوي-التاكونيتي شخصية غريبة، نرجسية، معقدة ومسلية، عصامية ومضطربة، استدرت نحوه، ونحن نتجاوز منعرجات أيت ساون، حين توقف الطاكسي لأحد الراكبين،  ليتقيأ ويفرغ مابي جوفه من بيض وخبز ورايبي محلبات زاكورة، سألته :
-
 علاش ماتكتبش قصة حياتك يستفدي منها الشباب المغربي ويتخذك عبرة في الصبر؟
- لا لا اختي بغيتني نولي مشهور ويبداو يجيو عندي الناس يسلمو عليا ووسائل الإعلام ويجي شي واحد يقتلني حنت هضرت عليه..
 
أضحكني جوابه، بدأ هو أيضا بالضحك منه وعليه، بدأ يحس باهتمامي بقصته وشخصه رغم غرابته ومأساويته المفرطة، أدرك بنباهة الصحراوي بأني منجذبة، بالضبط لهذه الغرابة، اقترح علي الاستراحة بحانة " الواحة" بمركز ورززات لاحتساء بعض البيرات نطفيء بها عطش الطريق وعطشي لسمرته المفرطة والإبحار في عمق عينيه الصقريتين الحاملتين لألف حكاية وحكاية.. 
إرسال تعليق

إرسال تعليق