أختى

أختي، ميلودة المتمردة

 


أصل المأساة. 

 مَن منا لم يكن لديها دفتر ذكريات عند بداية مراهقتها ؟             

شخصيا، كنت أخاف جدا أن أكتبها، كانت مجرد استيهامات صامتة وبعض أحلام وحشية منزوية في ظلام الرعب والخوف من العقاب، لم تكن لي حياة  خاصة مراهقة هوجاء ولاحديقة سرية مثقلة بالمغامرات، كنت مجرد راهبة صغيرة، غطوا ضفائرها الشقراء، باكرا، قبل بروز ثدييّ وسيلان محيضي واكتمال منحنياتي،  لٍتتناسل  تحت الغطاء أدغال من الخبال المكتوم والجامح...

  مرت الٱعوام، كبرت أختى «ميلودة» التي تصغرني بخمس سنوات، صار عمرها إحدى عشر سنة، ولجت الإعدادي، مستهلة عصر مراهقتها بشاهد عليه، يؤرخ لمغامراتها العاطفية وثوراتها العائلية وانتفاضاتها الوجودية..

 كانت تكتب كل شيء عن حياتها الصغيرة الضاجة بالمغامرات البريئة لطفلة بعمرها وشقاوتها وتمردها. كانت حياتها لاتشبه حياتي في شيء. نعم، هي  تشبهني في بياض البشرة، شقرة شعرها الطويل  المنسدل أسفل ظهرها في ضفيرتين أو ذيل حصان،عيناها اللوزيتان العسليتان وفمها الكرزي بشفاه شرهة موردة، جعلت منها فتاة جميلة  لاتضاهيها  قرينة أخرى بالحيّ والمدرسة والعائلة في طراوتها وسحرها في شيء.

أختي، كانت كتلة من نار الحربة وريح التمرد، عصية على الانصياع، تعشق الموسيقى بنهم مستعدة دوما للعقاب بسب ذلك من طرف أخي الذي حرمنا من أشرطة عبد الحليم ووردة وفيروز، ليجلب عوضا عنها دروس كشك والشعراوي وسور الٌقرآن بصوت عبد الباسط والحصري والمنشاوي.

 لم تكن ميلودة المتمردة تعبأ لتهديداته وعقابه مثلما كنت أخاف منها، بل تشتري الشرائط خلسة، تخبئها في محفظتها وبين الملابس، تقتني أحمر الشفاه الخفيف المصنوع من زبدة الكاكاو الزهربة اللون، و بالقرب من الإعدادية، تخنفي وراء سقاية الماء، تنزع سروالها الطويل أسفل الفستان او التنورة، تضعه بمحفظتها، تمرر أصبع الكاكاو على شفتيها ثم تلج الإعدادية مزهوة بجمالها ولمعان بشرتها وشغفها بالحياة.

  أنظر لأختي، الآن، من شرفة الحاضرالظلامي الرجعي المطلة على ذاك الماضي الفواح بعطر التمرد  ، فتبدو لي زهرة برية وسط حقل أخضريانع اقتلع غصنها الطري منجل التطرف الإسلامي. لم تكن تهتم بتلميع صورتها كتلميذة بقدر ماكانت قارئة نهمة جدا وشرهة للكتب والروايات، خاصة الفرنسية، ماسيجعلها تختار تلك اللغة لتتحدث بها لكتاب ذكرياتها، وهي بالكاد ابنة الحادية عشرة,,

عنيدة ومشاكسة، لم يسلم أحد من شر أظافرميلودة الحادة، كأنها قطة شوارع بين أيد أطفال أشرار، من حاول مس ضفائرها، أو اعتلاء سور حديقتها السرية أو مشاركتها ذخائرها، كان مصيره الخدش والعض والنتف والصفع والركل. فتاة غاضبة ولعوب، في نفس الآن، مستعدة للدفاع عن نفسها او الهجوم على المعتدي أيا كان.. لذلك، امتلكت جرأة كتابة أحداث يومها وذكريات معيشها، تقريبا بشكل يومي ومستمر منذ تلك السن المبكرة جدا.

 اختارت دفترا من الحجم الكبير، بمئتي ورقة، يشد أوراقه  ذات المربعات الصغيرة سلك لولبي. كنا نتقاسم، معا، نفس الغرفة، بعدما بنى والدي الطابق الثالث، عشوائيا، بمنزلنا الضيق الطويل الذي يشبه صومعة وشيكة السقوط، دون الحاجة لمهندس، كذلك كان كل سكان حينا الشعبي«البيتات» المغبر يفعلون.

أتذكره جيدا، بكل التفاصيل الدقيقة اللامتناهية، كان دفتر غواية وسحر، كلما ضبطتها تكتب فيه، في غفلة منها، وهي مضطجعة على سريرها أو جالسة منحنية الظهر على كرسي المكتب، تضمه بين ركبتيها وصدرها، إلا وأحسست بالفضول ينهشني، والرغبة في قراءة أسراره تتملكني، وحين أراها تلصق به صورا أو رسوما أو رسائل أوتضع ورودا جافة، أوقن أن لحدث اليوم علاقة بما تلصقه.

 كانت هناك دوما صور ألبومات شرائط عبد الحليم ووردة وجان جاك كولدمان وباتريسيا كاس وفانيسا بارادي، إضافة لبوب مارلي، وستيفي ووندر ودافيد بوي.. وغيرهم كثير..  كل النجوم من ممثلين ومطربين مشارقة وغربيين الذين كنا نحبهم معا : أورنيلا موتي، ألان دولون، دي بارديو، أطوني كوين، ماستروياني، بروك شيلدز، رومي شنايدر.. ولاحصر..، كنت أتابع كيف تقص وتلصق صورهم بدفترها العجيب ، دون ان أجرؤ على الاقتراب..

 كان غلاف الدفتر الخارجي أصفر مائل للبرتقالي، به رسوم  على شكل أزهار وأشكال هندسية متنوعة ومسلية. في بداية الأمر، حرصت أختي على تغليفه بعناية شديدة مبالغ فيها، بواسطة ورق هدايا براق مائل للأخضر تخترفه خطوط سوداء متقاطعة، ومع مرور الوقت وكثرة الاستعمال، تمزق، فقررت تركه عاريا إلا من غلافه الأصلي الأصفر المائل للبرتقالي المشدودة أوراقه بسلك لولبي.

 توالت الأيام والشهور، وصرت مثل كلب بافلوف، كلما رأيتها تكتب فيه، استبدت بي رغبة قوية لاقتحام سرية  صفحات هذا الدفتر المليء بالخبايا والأسرار، كنت أعرف أنها "شيطانة" صغيرة ومغامرة، لم يستطع أخي الأكبر تدجينها وترويضها مثلي، ولا أن يفرض عليها الحجاب، من يدري، قد  غلبه تمردها و ربما ينتظر، فقط، أن تحيض.

 وفي أحد الأيام من شهر دجنر البارد، أصيب كلب بافلوف داخلي بالسعار، سال لعابي وارتعشت يداي، صار قلبي يضرب كطلقات متتالية من مدفع رشاش، كنت بالبيت في نصف يوم فارغ من الدراسة، بينما أختي بالإعدادية، أعرف أنها لن تعود للبيت إلا بعد السادسة مساء،  تركت يدي تتسلل تحت سريرها،  لأستل بخفة ودناءة اللصوص، دفتر ميلودة المتمردة.

كنت مسحورة فعلا، بفتنة المكتوب الممنوع، قرأته دفعة واحدة، خلال ساعتين تقريبا، كأني مسافرة ظمٱنة وسط الصحراء عثرت على بئر يفيض ماء زلالا.

 الصمت وبرد فصل الشتاء يعمان الغرفة وباقي المنزل، أحسست بحرارة شديدة تستبد بجسدي، ريقي ينشف وأنفاسي تتلاحق متقطعة وقلبي يخفق بشدة كأني أصعد سلما طويلا وعاليا. أحسست بالخوف والمتعة، بالحرج واللهفة، بالخيانة والغدر، بالدهشة والإعحاب. منذ تلك اللحظة، استبد بي الإدمان وصرت أقرأ كلما تكتبه، أظنها عرفت بالأمر، لم تحدثني فيه،  كنا متفاهمتين لحد كبير رغم اختلاف طبعينا..

استمر الدفتر رفيقا لحياتها السرية ومخدعا تمارس فيه طقس البوح اليومي، أنجبت كتاباتها السرية أكثر من دفتر مملوء بتعبير فرنسي أنيق متماسك وجذاب كما اللذة الأولى للقبلة،  سطور وسطورضاجة وصاخبة بحياة طفلة ومراهقة، بأحزانها وأفراحها، خيباتها ونجاحاتها، دموعها وبسماتها، سلسلة متواترة من حكي مرسل حقيقي ومثير...

كنت أقرأ  كسارقة تفاح بستان الجيران، أعرف كل خفية عن أختي الصغيرة التي تكبر في عيني، معجبة بأسلوب كتابتها أكثر من الأحداث التي غالبا ماكنت أشاركها إياها، أوتحكيها لي ونحن نستعد للنوم...

وككل المآسي والخيبات الي حلت بحياتنا على يدي أخينا الأكبرالمنتمي لجماعة الشبيبة الإسلامية، عرف مصير هذه المذكرات المصادرة والحرق ومحاكم التفتيش، نالت أختي المسكينة أشد علقة وعقاب، على يد دكتاتور العائلة، الذي حولته الجماعة الإسلامية، لقنبلة متكررة الانفجار، في وجه حريتنا وعيشنا البسيط وأحلامنا الطفولية، كلما تذكرت وتذكرت..أحس برغبة في النزول للبحر من أجل الصراخ والصراخ والصراخ....


إرسال تعليق

إرسال تعليق