كنت أيامها بالإعدادي، السنة الثالثة ، تحديدا، سنة 1979..
كانت هي رفيقتي بالقسم، أذكر اسمها جيدا : ربيعة الأشهب، فتاة عادية في كل شيء، متوسطة المستوى في الدراسة، مهملة لشكلها، تسكن نفس الحي أسكنه..ليست ربيعيه من سكنت ذاكرتي، بل أختها الكبرى: زهور الأشهب( أكتب اسهمها الحقيقيين علّي أستعيد تواصلي معهما).
زهور، تكبرنا بسنتين، تدرس بالسنة الرابعة..
جميلة جدا وأنيقة. تشبه ممثلات هوليود الشقراوات شعر أشقر حريري مقصوص حد الكتفين وغرّة ذهبية تحيط بالعينين الواسعتين وتحفّ الوجه البيضاوي كما تحفّ النجوم بالقمر..
زهور، طويلة، لاترتدي إلا الأنيق من الثياب : بذلات موحدة اللون. بسترة وسروال أو سترة وتنورة حد الركبة وأحيانا قد تنقص أو تزيد عنها..أحذية بكعب جميلة سوداء في الغالب..
حتى حقيبة المدرسة كانت نسائية ولم تكن كحقيبتينا أنا وربيعة، طفولية تحمل باليد ..بينما معصمها وأصابعها الرقيقة كأصابع الحلوى تزينها حلي ذهبية خفيفة وبراقة لا أراها
بيدي أختها ربيعة..
كنتُ غالبا ما أتساءل بنفسي :
- لم تصر ربيعة على ادعاء أن زهور أختا لها؟
ثم أعود فأستحضر الأسم العائلي:
-لا لا، هنا أختان لاشك في ذلك، هناك شبه في الملامح، وإن كانت ربيعة تبدو في صورة رديئة ربما للإهمال..
هناك شيء ما، غير سويّ، أختام تعيشان بنفس البيت من أم واحدة وأبٍ متوفّى وإخوة، ومع ذلك كل شيء يفرق بينهما..
لم أكن من النوع الذي يحبّ حشر نفسه في حياة الآخرين، كانت لي عوالمي التي أسرح فيها بعيدا عن انشغالات فتيات جيلي وزميلات مدرستي وبنات حومتي..
كل يوم، تقريبا، يجمعنا طريق العودة من إعدادية الأمل، تصر زهور على مرافقتنا، رغم أناقتها البارزة وبساطة مظهرينا، بدأت تتقرب منّي، تقول لي بأنها معجبة باجتهادي ومواظبتي وسلوكي، وأنها تريدني أن أرافقهم يوما ما للبيت لتناول اللمجة، ثم مرافقتي نحو بيتنا مع أخيها..تريدني أن أكون قدوة لأختها الصغرى في كل شيء وأراجع معها بعض الدروس..
في تلك السنة، بالذات، سرقت الجماعات الإسلامية أخي الأكبر وبدا ملتصقا بها، يحضر كثيرا من الكتب الدينية للبيت من المرجعية الإخوانية ويصر على فرض رقابته على كتبي وقراءاتي وملابسي وجسدي قبل إرغامي على ارتداء الحجاب في السنة الموالية ..
إلى أن جاء ذاك الصباح، كانت زهور قد طلبت مني المرور إلى بيتهم لنذهب معا نحو الإعدادية، ذهبت باكرًا بعض الشيء، أدخلتني، ثم أجلستني وسط البيت حيث مائدة الفطور بقهوتها وحليبها وخبزها وزيتها لاتزال ممدة، بحركة لطيفة جلست بجانبي ثم مدت لي ظرفا أبيضا متوسط الحجم بداخله شيء على شكل كتاب ، أدركت الأمر عندما تحسسته.
- ماهذا يازهور؟؟
- إنه هدية الرب إليك أيها الفتاة المجتهدة المؤدبة، وقد اختارك لتكوني معنا، إنها رسالته قادمة من فرنسا، لاتفتحيه الآن، حتى تعودي مساء للبيت ولاتفتحيه أمام أخيك أو أحد من أسرتك!!
-مامعنى الرب؟ هل هناك رب آخر غير الله ؟ هل أنت داعية أم مبشرة أم ماذا؟؟
اكتفت زهور بإشهار ابتسامتها الفاتنة الوديعة في وجهي، ربتت على كتفي تطمئنني:
- اقرئيه أولا وسوف أجيبك عن أسئلتك وربما ستجدين أجوبتك بالكتاب كما وجدتها أنا وأخي الذي هاجر إلى فرنسا..
أسلوب ماتع جميل..
ردحذف