أمي

أمّي…بمذاق العيد الذي لايغادر حواسي رغم المسافات والصمت


أمي، كانت محطة مشعة بالمذاقات المذهلة الفائقة اللذة والتركيبات. في عيد الفطر، الذي كنت أفضله على الأضحى، كانت يدا أمي وأنفاسها تبدع  الخوارق  في الروائح والأطعمة والتحضيرات..

ذاكرتي لازالت شبيهة بشجرة سِدْرٍ تعلق  باشواكها صور الذكريات واللحظات الذائبة في مياه الماضي التي جرفها السيل..

يبدأ العيد عند أمي، أسبوعا من قبل، تتحول العشر الأواخر من رمضان لمهرجان إعادة تبييض جدران البيت والسطح و" قدّام باب الدار"..

تشتري الجير الأبيض من عطار الحومة، تخلطه بيديها الخشنين بالماء، تضيف له رشّة ملح وقطرات زيت. تخلطه بقطعة خشب طويلة، تحركه من حين لآخر لتتأكد من ذوبانه وانحلاله في الماء..قد يسعفها الحظ، فيستجيب أخوها من أمها، العازب الذي توفي عازبا منذ سنوات طويلة..لم يكن لنا هاتف منزلي حينها، تلبس جلبابها ولثامها، تذهب لبيت زوج أمها المدعو " الوطن"..تجر أخاها ليقوم بعملية تبييض منزلنا قبل العيد، تنفحه مالًا يشتري منه مايكفيه من ربطات " الكيف"..

وإن لم يتم الأمر، فهي تشمّر على ساعديها البيضاوين العاجيين، تحزم شعرها الحريري الأسود الفاحم داخل غطائين، تحيط خصرها النحيف بمئزر بلاستيكي، وبين إعداد وجبة الفطور والسحور وتلبية نداء زوجها الليلي قبل طلوع الفجر والسهر على إطعامنا ، نهارًا نحن أطفالها الستة، والاستجابة لمطالب حماتها التي هي عمتها، دون إثارة غضبها، كانت أمي تبيض بيتنا بكامله، أستنشق رائحة الجير كلما عدت من المدرسة، تختلط في ذاكرة حواسي بعطر جسدها الطبيعي.. 

رائحة الجير والحناء المكومة بين كفي عند الصباح وصواني حلوى " الباليبا " وأعراش النعناع السطاتي المقطعة سلفًا لصواني الشاي طيلة يوم وثاني عيد..

وأما رائحة الحمام الشعبي والحناء أم عطور وليلة السهر أمام الفرّاح والمجمر الطيني لإعداد البغرير..

البغرير، كان أيضا واحدة من بطولات أمّي التي تغلب فيها جميع الجارات والقريبات..لاواحدة منهن يصدق بغريرها..

أمي كانت فاتنة هاربة من لوحات " دولاكروا" بطلة بدون نياشين ولامجد..

حياة أمي الشبيهة بآلة ترموميكس، كانت تخيفني، ترفع في وجهي مستوى التحدي، تجعلني أكره وجودي كانثى وأحبه في نفس الآن..

أكرهه لأن أمي كانت امرأة خارقة في الأعياد. وخارجها، تعرف إعداد كل شيء وبإتقان رهيب ولامجال للوصول إلى مستواها العالي جدا، البطلات اليوميات المعطرات الغارقات في سيول العرق الأسري لاتولدن كل يوم.

أحبها، لأنها جعلت من حياتي كطفلة وحياة إخوتي ساحة للرقص اليومي على رجل واحدة، عندما يصل العيد، تتحول لإلهة وسط بيتها المقدس،  تحنو على صغارها بالرعاية والعناية وجديد الملابس والتسريحات والعطور والحلويات والفطائر التي لن تغادر روائحها ومذاقاتها ذاكرتي حتى وإن غادرت حضن أمي وحضن بلدي بعيدا بعيدا حيث لاوجود لمذاقات أمي ورائحة الحناء بيديها.




إرسال تعليق

إرسال تعليق